نشرت صحيفة الجارديان البريطانية مقاطع فيديو، يظهر فيها ضباط للنظام السوري بصدد القيام بإعدامات جماعية ضد المواطنين في منطقة التضامن، بعد أن شاهد مجند سرًّا مقطع فيديو يوثق مقتل 41 شخصًا بوحشية، ليقرر نشر المشاهد إلى العالم.
وقالت الصحيفة في تقريرها، إن هذا المجنّد تسلّم قبل ثلاث سنوات جهاز كمبيوتر محمولا تابع لأحد الأجنحة الأمنية لبشار الأسد، حيث شاهد مقطع فيديو يظهر حفرة حديثًة في الأرض بين مبنيين مليئين بثقوب الرصاص؛ حينها رأى المجند ضابط مخابرات كان يعرفه جالسا قرب الحفرة مرتديًا زيًّا عسكريًّا وقبعة صيد، ويلوح ببندقية هجومية، مصدرًا الأوامر.
وأوضحت الصحيفة أن رجل المليشيا المبتدئ ارتعب عندما شاهد الضابط يطلب من رجل معصوب العينين أن يركض نحو الحفرة العملاقة التي لم يكن يعلم أنها تقع أمامه، كما أنه لم يتوقع دوي الرصاص على جسده بينما كان يسقط على كومة من القتلى تحته؛ وتبعه المزيد من المعتقلين، إذ قيل للبعض إنهم كانوا يركضون هربًا من قناص قريب، بينما تعرض البعض الآخر للسخرية والإيذاء في اللحظات الأخيرة من حياتهم، فيما اعتقد العديد منهم أن القتلة يقودونهم بطريقة ما إلى بر الأمان.
وأسفرت
عملية القتل، بحسب الصحيفة، عن وفاة 41 رجلا في مقبرة جماعية في ضاحية حي التضامن
بدمشق، ثم سكب القتلة الوقود على الرفات، وأشعلوه ضاحكين، حيث إنهم أخفوا آثار
جريمة حرب على بعد عدة أميال فقط من مقر السلطة في سوريا، وقد كان ختم تاريخ
الفيديو بتاريخ 16 نيسان/ أبريل 2013.
وبعد ثلاث سنوات، مرّ المجند السوري برحلة محفوفة بالمخاطر من واحدة من أحلك اللحظات في تاريخ سوريا الحديث إلى الشعور بالأمان النسبي في أوروبا؛ حيث تمكن من مقابلة اثنين من الأكاديميين الذين أمضوا سنوات في محاولة نقله إلى بر الأمان، كونه مصدرا رئيسيا في تحقيق استثنائي، في محاولة لتحديد هوية الضابط الذي قاد المذبحة، وإقناعه بالاعتراف بدوره.
وأضافت الصحيفة أن هذا الفيديو يوثّق قصة جريمة حرب، من قبل إحدى أشهر هيئات الإنفاذ في النظام السوري، وهو الفرع 227 من جهاز المخابرات العسكرية في البلاد؛ حيث كشف عمل الأكاديمييْن الستار بشكل غير مسبوق عن الجرائم التي كان يُعتقد سابقًا أن النظام ارتكبها على نطاق واسع في ذروة الحرب السورية، والتي كان دائمًا ما ينكرها أو يُلقى باللوم على الجماعات المتمردة والمتطرفة.
ولفتت الصحيفة إلى أنه بعد تسع سنوات، استعملت القوات الروسية قواعد ترهيب الدولة للسكان المدنيين المعتمدة في سوريا؛ حيث تحولت العملية العسكرية الخاصة المزعومة لفلاديمير بوتين إلى احتلال وحشي لأجزاء من شرق أوكرانيا، حيث بثت وحدات المخابرات العسكرية الخوف في المجتمعات من خلال الاعتقالات الجماعية والقتل الشبيه بما حدث في سوريا.
وتلقت الأجهزة الأمنية السورية تدريبات على يد الضباط السوفييت والشتاسي في الستينيات، حيث تعلمت فن التخويف بشكل جيد، بينما كان الضحايا من المدنيين غير المنحازين لأي من الجانبين والذين قبلوا حماية الأسد؛ حيث مثّلت عملية قتلهم رسالة موجّهة إلى الضاحية بأكملها مفادها: “لا تفكروا في معارضتنا”.
وذكرت الصحيفة أن المصدر قام أولًا بتسريب الفيديو لناشط معارض في فرنسا، ثم للباحثيْن، ثم للسيدة أنصار شاهود، ولاحقًا للبروفيسور أوغور أوميت أنجور، من مركز الهولوكوست والإبادة الجماعية بجامعة أمستردام، ونتيجة لذلك تملّكه الخوف من التعرّض للقتل، واحتمال طرده من قبل عائلته، وهم أعضاء بارزون في الطائفة العلوية التابعة للأسد، التي تسيطر على ما تبقى من سوريا.
أشارت الصحيفة إلى أن الفيديو يمثّل قسما هاما من الأدلة المضمنة في القضية المرفوعة ضد الرئيس السوري، لكن أنصار وأوغور احتاجا إلى العثور على الضابط، فلجأوا إلى استعمال: الأنا الأخرى.
وكانت أنصار من أشد منتقدي الأسد منذ اندلاع الحرب السورية، وكانت عائلتها تجمعها علاقات جيدة مع الأسد، لكن الصراع والانهيار الاقتصادي أدى إلى توتر التحالفات، فوجدت أنصار نفسها مصممة بشكل متزايد على محاسبة الأسد، بغض النظر عن الثمن الشخصي.
التقت أنصار بأوغور في عام 2016، وقد شارك كلاهما في محاولة تأريخ ما يعتقد أنه إبادة جماعية تُرتكب في سوريا؛ من خلال تجميع قصص الناجين وعائلاتهم والتحدث إلى الجناة.
ومع ذلك، كان كشف مدونة أوميرتا الخاصة بالنظام مهمة يُعتقد أنها شبه مستحيلة، لكن أنصار كانت لديها خطة لشق طريقها إلى الحرم الداخلي لمسؤولي أمن النظام، من خلال التظاهر بأنها معجبة، وأنها تعتنق قضيتهم بالكامل.
وقال أوغور: “تمثّلت المشكلة في صعوبة دراسة نظام الأسد، إذ لا يمكنك الدخول بسهولة إلى دمشق وطرح الأسئلة، فلقد توصلنا إلى استنتاج مفاده أننا في الواقع بحاجة إلى الاستعانة بشخصية، ويجب أن تكون تلك الشخصية شابة علوية”.
أثبتت أنصار أن جواسيس سوريا وضباط الجيش يميلون إلى استخدام منصة فيس بوك، وترك حساباتهم الخاصة مفتوحة للعموم؛ وهنا قررت اختيار اسم مستعار، “آنا شا”، وطلبت من صديق مصور لها التقاط بعض الصور لإبراز وجهها، ثم حولت صفحتها الرئيسية إلى صفحة داعمة للأسد وعائلته، وشرعت في محاولة تجنيد الأصدقاء.
وعلى مدى العامين التاليين، كانت العودة إلى الواقع عادةً مفاجِئة لأنصار، لأن العديد ممن تحدثت إليهم كانوا أعضاءً فاعلين في آلة القتل، والبعض الآخر كانوا جزءًا من العصابة، فإذا تمكنت من العثور على المسلح الذي يظهر في الفيديو، يمكنها حينها السعي لتقديمه لأيدي العدالة، وربما يمكنها أن تقوم بإجراء يثبت ضلوع الدولة السورية بشكل لا يقبل الجدل ببعض أسوأ فظائع الحرب.
وتمكنت آنا أخيرًا من تحقيق تقدم في شهر آذار/ مارس، حيث كان حساب آنا شا على فيسبوك قد كسب ثقة أكثر من 500 من المسؤولين الأكثر تفانيًا مع النظام، وبينما كانت تقلب صور أصدقائهم، برزت صورة لوجه ممتلئ مع ندبة ولحية، يطلق على نفسه اسم “أمجد يوسف”، وكان يشبه إلى حد كبير المسلحين الذي يرتدي قبعة صيد.
بعد ذلك
بوقت قصير، تلقت أنصار أو آنا ش تأكيدًا من مصدر داخل حي التضامن يفيد بأن القاتل
كان رائدًا في الفرع 227 التابع للمخابرات العسكرية السورية.
وقالت لصحيفة الجارديان: “كان شعور الارتياح لا يوصف، كان هناك شخص يحمل في جعبته مفتاح كل شيء.. والآن أنا بحاجة إلى جعله يتكلم”.
تتذكر أنصار جيدًا اللحظة عندما قبل غريمها طلب الصداقة الذي أرسلته إليه، وأخيرًا تم نصب الشَّرَك له وهي الآن بحاجة إلى استدراجه، ولكن لم تكن المكالمة الأولى ناجحة، فقد ارتاب أمجد وأنهى المكالمة بسرعة، ولكن أثار شيءٌ ما فضوله في تلك المحادثة، فأصبح الصياد هو الفريسة، وعندما أجرى معها أمجد مكالمة فيديو بعد ثلاثة أشهر، ضغطت أنصار على زر التسجيل، وردت “آنا” على المكالمة.
بعد كل هذه السنوات، بدا أمجد متجهمًا في البداية، حيث نطق بكلمات قليلة، وعندما قرر التحدث تمتم، فيما بذلت آنا كل ما في وسعها لمعرفة كل ما عنده ولكن بشروطه؛ إذ تبتسم بخجل تارةً، وتضحك وتذعن له تارةً أخرى، وهو يمطرها بالأسئلة، حتى بدأ وجهه المتجهم بالاسترخاء تدريجيًا، واستطاعت آنا كسب المعركة إلى طرفها.
وسألته آنا عن حي التضامن، ثم طرحت عليه سؤالًا غير لهجة المحادثة بأكملها: “كيف كان شعورك بالجوع وقلة النوم والقتال والقتل والخوف على والديك وعلى شعبك؟ إنها مسؤولية كبيرة وقعت على عاتقك”، فحينها جلس أمجد على كرسيه الذي أصبح يشبه كرسي الاستجواب، فلم يعد هو من يدير المحادثة، واستطاعت آنا الحصول على إجابة لكل رد من ردوده، وذلك بجعله أكثر ثقة بنفسه، وملاطفته، وإرضاء غروره.
وقالت أنصار: “لا أنكر أنني كنت متحمسة للتحدث معه؛ لذلك كنت أبتسم، لكن لمعرفة قصصهم، نحتاج إلى إقناعهم بأننا مجرد باحثين ليثقوا بنا؛ إنها ليست نتيجة مقابلة واحدة؛ إنها نتيجة أربع سنوات من العمل المتخفي.
وطوال صيف العام الماضي؛ حاولت أنصار (بشخصية آنا) وأوغور الجلوس أمام الشاشة وإقناع أمجد بالتحدث، وكان الولوج إلى رأس القاتل أمرًا، وجمع معلومات حقيقية حول سبب قيامه بذلك وانتزاع الاعترافات منه أمرًا آخر كليًّا، فلقد كانا يبحثان في ملفه الشخصي على فيس بوك عن أدلة، وقد عثرا على صورة لأخيه الأصغر، وقصائد كتبها أمجد بعد وفاته في أوائل عام 2013، قبل ثلاثة أشهر من مجزرة حي التضامن.
فيما استمرت آنا في الضغط عليه لإجراء مكالمة أخرى، لكنه استطاع التملّص، وفي وقت متأخر من إحدى ليالي شهر حزيران/ يونيو، ظهر إشعار على برنامج “مسينجر”؛ لقد كان أمجد، وكانت هذه الفرصة للتشبث به.
وذكرت الصحيفة أنه في تلك الأثناء، بدأت أنصار تشعر أن شخصيتها الثانية قد بلغت حدها، وأن كلاهما يحتاج للراحة، فقد تواصلت هذه الشخصية مع أكثر من 200 مسؤول في النظام بعضهم وجّه الجناة في جرائم القتل، والبعض كان جزءًا ممن ساعدوا محاولات الأسد للتشبث بالسلطة.
وخلال السنة الماضية، سئمت أنصار من كل هذا التعاطف مع الجناة والذي بدأ يتسلل إلى روحها، بحسب صحيفة الغارديان.
وقالت للصحيفة إن “أنصار تستحق أيضًا أن تعيش”، مضيفة: “ثم كان السؤال، أين أنصار؟ ومن تكون الآن؟ تمكنت آنا من التظاهر بأنها فعلًا الشخصية التي تجسدها وبأنها علوية”، متابعة: “أعتقد أن آنا تمادت، فهي لم تعد هوية رقمية فقط. لذلك قررت إعدام آنا”.
وفي شهر كانون الثاني/ يناير من هذه السنة، حزم كل من أوغور وأنصار صندوقًا به نسخ لصفحة آنا على فيس بوك، مع سيف استُخدم كرمز لنظام الأسد ثم توجهوا لمحمية خارج أمستردام، حيث حفروا ودفنوا الشخصية البارعة للمحقق الرقمي.
ونقلت الصحيفة عن أوغور قوله: “إن علماء النفس سيخبرونك أنه إذا كان لديك فترة صعبة، يمكنك أن تميز هذه الفترة بنوع من الطقوس؛ حيث يساعد ذلك على التجاوز والمضي قدمًا”.
وحان الوقت
لكلا الباحثين للتركيز على المواد التي جمعاها ولم يتمكنا من معالجتها بعد، حيث
بقي عليهما مواجهة أمجد بما يعرفانه عنه، ولهذا أرسلت أنصار، مستخدمةً هويتها
الحقيقية هذه المرة، فيديو مدته 14 ثانية لأمجد عبر فيس بوك.
شجب أمجد أعضاء مليشيا جبهة الدفاع الوطني، المنتمي إليها مسرّب الفيديو، ووصفهم بالقتلة، وقال إنه ليس مثلهم، ثم تقبل ما فعله بفخر.
وبينت الصحيفة أن كلا من أوغور وأنصار لم يجب على أمجد وقام بحظره من حساباتهما، لكنه حاول التواصل معهما عدة مرات، حيث بدا جليًا أنه كان متوترًا بشأن ما ينتظره، فلقد بدأت محاكمات جرائم الحرب في ألمانيا بكسر درع الإفلات من العقاب الذي أحاط به نظام الأسد نفسه في سوريا. لكن لم تُعرض خلال جلسات المحكمة نفس الأدلة الدامغة كما صورها فيديو المذبحة.
وأوضحت الصحيفة أنه قبل أن يصبح من الممكن سرد هذه القصة، كان على الشخص الذي سرّب الفيديو الوصول لبر الأمان، حيث بدأت رحلته الخطيرة، في وقت ما في الأشهر الست الماضية.
إن ترك النظام في سوريا لم يكن سهلًا قط؛ حيث يواجه أي شخص يأمل في السفر، سواء داخل أو خارج الدولة، عملية استجواب طويلة، وعلى الرغم من احتفاظ الأسد بالسلطة، إلا أن مجال سيطرته تقلص، ويحق لكل من إيران وروسيا نقض العديد من قرارات الدولة، فيما تسيطر المعارضة على الشمال الغربي، والأكراد في الشمال الشرقي.
انطلق شاب من العاصمة السورية متجهًا إلى حلب في رحلة ستأخذه إلى الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة، ثم إلى تركيا ومنها إلى أوروبا.
كانت الرحلة إلى حلب عصيّبة، حيث سُمح له بالمغادرة مع الخوف من لحاق وحدات المخابرات به. وفي الضواحي الشمالية لحلب، حصل عقيد على رشوة مقابل السماح للرجل بالعبور من المنطقة الفاصلة، وتأخرت الرحلة يومًا نظرًا لعبور شحنة من المنشطات، التي يصنعها النظام ويصدرها في أنحاء الشرق الأوسط، وسرعان ما تبعها عبور المصدر، وبعد عدة أسابيع، قابلته أنصار في تركيا، بينما تم ملء فراغات قصة حي التضامن، وواظبوا على وضع الملاحظات الخاصة بجرائم الحرب.
وسلّم أوغور وأنصار الفيديو والملاحظات التي شملت آلاف الساعات من المقابلات للمدعين العامين في هولندا وألمانيا وفرنسا في شباط/ فبراير، وفي نفس الشهر في ألمانيا، أقيمت أول محاكمة من نوعها لمسؤول آخر في المخابرات السورية وهو أنور رسلان، والذي أدين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وحكم عليه بالسجن المؤبد.
لا تزال أنصار في غربة، على حد أقوالها، فهي ليست نفس الشخص الذي كانت عليه عندما بدأت هذه الخطة، حيث قالت: “لكن الأمر كان يستحق كل هذا العناء، وأتمنى أن يساعد عملنا في تحقيق العدالة”.
ويضج حي التضامن بالحركة هذه الأيام وكأن الحرب لم تُظلِم أبدًا أركانه؛ حيث تم تغطية معظم الخراب، فيما يبدو أوغور وأنصار مقتنعين بأن العديد من المذابح وقعت هناك، ويقومان بتجميع الأدلة حول من فُقدوا في صراع السيطرة على الضاحية.
وقال أوغور: “الغريب في الأمر أن هؤلاء الذين قُتلوا في الفيديو لم يكونوا منشقين، بل كانوا مع النظام.. أخِذوا مباشرة من نقاط التفتيش وليس الزنزانات. وتم قتلهم كتحذير بعدم التفكير في عبور أحد الجانبين”.
أما بالنسبة للمصدر، فهو آمن خارج سوريا، بينما حكم على نفسه بالمنفى إلا أنه سعيد بقراره.
وقالت
أنصار: “أحيانًا يريد الناس أن يفعلوا الصواب فقط.. هناك خير في الناس، والحقيقة
سترى الضوء ولو بعد حين”.
المصدر:
الجارديان البريطانية