بقلم أ.
محمد العوضي
عضو هيئة
التدريس بكلية الدراسات التجارية
لم أكن
أتصور أن ينقلب المشهد بهذه الصورة الدراماتيكية، وأن يحدث ما كنا نحذِّر منه بتلك
السرعة. لقد وضعت جائحة كورونا الحكومة والمجلس أمام زاوية ضيقة زاوية العجز
الهائل في الميزانية وشح السيولة في صندوق الاحتياطي العام، وكشفت عن ضعف البدائل
المتاحة أمام الحكومة وعن غياب أي تصورات عملية لتحرير الاقتصاد من الاعتماد على
النفط. لقد كانت الحكومة تشتري الوقت بتكاليف باهظة منذ عام 2015، وتؤجل عملية
الإصلاح الاقتصادي أمام مجلس شعبوي يرفع شعار «جيب المواطن»، بالرغم من تحذير
المختصين ووكالات التصنيف العالمية من تأخر القيام بذلك، حيث خفضت إحداها مؤخرا
النظرة المستقبلية للكويت من مستقرة إلى سلبية.
لقد سبق
أن طرحت الحكومة وثيقة الإصلاح الاقتصادي، التي اشتملت مقترحاتها على ضغط مصروفات
الميزانية العامة للدولة وترشيد بعض الدعومات وفرض ضريبة القيمة المضافة، وأدى رفض
المجلس لأي مقترح يمس جيب المواطن إلى قيام الحكومة بالتوجه إلى سوق الاقتراض
العالمي في عام 2016، وبعد ذلك التاريخ تحسنت أسعار النفط، وقامت الحكومة بسد
العجز من خلال الاحتياطي العام الذي قارب على النفاد ولم نعد نسمع عن تلك الوثيقة
حتى جاء «كورونا». فهذا ديدن الاقتصاد الريعي المنكشف على الأحداث الخارجية،
فالثروات تأتيه والنكبات الاقتصادية تنهال عليه من خلال الأحداث الاقتصادية
العالمية والتطورات الجيوبوليتيكية دون أن يكون له أي رأي فيها. لعنة الموارد
الطبيعية أو ثقافة البترودولار أعمت بصيرة الكثيرين وجعلتهم ينظرون إلى العالم من
منظورهم الخاص، لا من منظار العلم والمنطق، متجاهلين حقائق واقعة يتكلم عنها
العالم، فلا يأبهون لتوجه العالم الصناعي نحو الاقتصاد الأخضر الذي يتهم الوقود
الأحفوري بالاحتباس الحراري، ولا ينظرون إلى الإنفاق الهائل على أبحاث الطاقة
المتجددة، ولا يتابعون تطور صناعة السيارات الكهربائية التي تعمل ببطاريات
الليثيوم، التي ستنتشر مثل النار في الهشيم في شوارع أوروبا وأميركا والصين
واليابان والهند وبقية دول العالم خلال السنوات القليلة القادمة، لتحل محل
السيارات التي تعمل بالنزين.
فقد
أعلنت النرويج، الدولة النفطية الاسكندنافية، أن لا مكان لغير السيارات الكهربائية
في شوارعها التي ستكون خالية من الانبعاثات الكربونية مع إطلالة عام 2025، وعلى
الخطى نفسها ستسير بريطانيا عام 2035. فالعالم قرر في مؤتمر باريس للمناخ عام 2015
اتخاذ خطوات جادة تحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض درجتين، واعتبار عام 2050 عاما
خالياً من الكربون، ولا أعلم كم سيتبقى للنفط من عمر ليبقى متصدراً مصادر الطاقة
الرئيسية إذا كان أكثر من %50 من استخداماته توجه للنقل البري؟ ناهيك عن استبداله
بالغاز الطبيعي والطاقة المتجددة والطاقة النووية الآمنة في إنتاج الكهرباء.
شراء
الوقت
ما زلنا نشتري الوقت انتظاراً لارتفاع جديد في
أسعار النفط، أو ربما طفرة جديدة كتلك التي حدثت في عامي 1973 و1980، أو تلك
الطفرة الكبيرة التي حدثت بين عامي 2003 و2015، ولنا وقفة عند هذه الطفرة التي
ربما ستصبح مع الأيام حالة تُدرَّس في الجامعات العالمية عن سوء إدارة الفوائض
المالية، عندما تم تحويل جزء كبير من هذه الفوائض إلى دعومات للسلع والخدمات
وباقات تقاعد وكوادر مالية سخية لبعض الجهات الحكومية واستحداث هيئات رقابية
بيروقراطية تزيد رواتب بعض قياديها أكثر من راتب الرئيس الأميركي، فتضخمت على إثر
ذلك الميزانية العامة للدولة، التي كانت قرابة 4 مليارات دينار عام 2000 إلى ما
يقرب من 22 مليار في 2020، وعندما انهارت اسعار النفط مع نهاية عام 2014 بسبب ثورة
النفط الصخري تمت الاستدانة من سوق الإقراض العالمي وتم استنفاد الاحتياطي العام
الذي تنامى في تلك السنوات لتسديد تكاليف الكوادر العشوائية والدعومات، ناهيك عن
المشاريع التي فشلت والفساد الذي تغوَّل وتكاليف الزيادة السكانية الهائلة من
العمالة الهامشية الرخيصة المصاحبة لتلك الطفرة، فتحولت فوائض أكبر طفرة سعرية
للنفط في تاريخ البلاد إلى تكاليف استهلكت الاحتياطي العام للدولة وإلى قروض
سيادية ستُحَمَّل تكاليفها على أكتاف الأجيال القادمة.
ضرورة
ملحة
لا أعلم متى يعي أفراد السلطتين التشريعية
والتنفيذية أن الإصلاحات المالية الهيكلية في الميزانية العامة للدولة أصبحت ضرورة
ملحة، تستوجب ترشيقها من ضغط النفقات والدعومات والكوادر، حيث يجب أن تترادف معها
خطوات جادة وشفافة تسعى للقضاء على الفساد وتحميل بعض تكاليف النفقات العامة على
المقتدرين من الشركات والأفراد، والذي يستلزم معه تغيُّر جوهري في أنماط الحياة
الاستهلاكية لكثير من المواطنين. ويجب إلى جانب ذلك العمل على تحويل التوصيات
الكثيرة للدراسات التي كلفت الدولة أموالا طائلة إلى آليات للتحول نحو الاقتصاد
الجديد المنتج للسلع والخدمات أي التحول من أموال البترودولار الريعية السهلة إلى
أموال الاقتصاد المنتج الصعبة الذي يسعى دائما إلى تحقيق النمو المستدام من خلال
القواعد الإنتاجية المتاحة ويترادف مع كل ذلك إصلاح شامل في التعليم وفي أنظمة
العمل وفي التركيبة السكانية.
يجب أن
يعي الجميع أن الإصلاح الاقتصادي بات ضرورة ملحة لأن القادم صعب، فالأموال السهلة
الآتية من الاقتصاد الريعي المعتمد على بيع النفط لن تعد تكفي لتوفير حياة كريمة
للمواطنين ولن تخلق فرص عمل للأعداد المتنامية القادمة إلى سوق العمل خلال العشرين
سنة القادمة، أي الشباب الذين تقل أعمارهم عن 22 سنة وتزيد أعدادهم على 700 ألف،
هذه الأعداد أكثر من أعداد الناخبين المقيدين في السجلات الانتخابية، وتعادل ضعف
أعداد المواطنين العاملين في القطاع العام. مع الأخذ بعين الاعتبار ديناميكية
العوامل الديموغرافية التي ستضخِّم أعداد هذه الفئة العمرية الشابة مستقبلاً
باستمرار على حساب الفئات العمرية الأخرى الأكبر سنا.
طريقان
متباينان
يجب على الحكومة ومجلس الأمة القادم الوعي التام
بأن الكويت أصبحت على مفترق طريقين متباينين، فأما الاستمرار بسياسة عدم المساس
بجيب المواطن، أو بالأحرى جيب الناخب على وجه التحديد، التي تبناها مجلس الأمة
الحالي والمجالس السابقة، وتشكيل حكومات محاصصة وترضيات على غرار نتائج
الانتخابات، سيكون بمنزلة دق المسمار الأخير في نعش أصول صندوق الأجيال القادمة
المصد المالي الأخير للكويت، والذي سيستنفد كما استُنفِد الاحتياطي العام للدولة
إما بتسييل أصوله أو رهنها بقروض مستقبلية سيادية لسد العجوزات المستمرة
بالميزانية العامة للاستمرار على نمط الحياة المرفَّهة نفسه لسنوات معدودة.
والطريق
الآخر الصعب هو التوجه نحو الاقتصاد الجديد، أي قبول تحدي صناعة المال والوظائف
اعتمادا على الاستثمار في رأس المال البشري، وتحدي التراكمات الثقيلة، من ضعف
القدرات التنافسية للقطاعات غير النفطية، وتَذيُّل التعليم العام مؤخرة الركب في
نتائج الاختبارات الدولية، وشح العمالة الوطنية الفنية والحرفية أو ما يعرف بذوي
الياقات الزرقاء، وعدم وجود اكتفاء ذاتي لأي سلعة أساسية، عدا سلعة النفط وتنافسية
ضعيفة على مستوى الإقليم، فالكويت أقل الدول الخليجية في الصادرات غير النفطية،
وفي تجارة إعادة التصدير، وأقلها جذباً للسياحة، وأكثرها اعتماداً على النفط،
وتتذيل القائمة في مؤشر مدركات الفساد، وكذلك في مؤشر جاذبية الأعمال وجودة البنية
التحتية، ولا أدل على ذلك من ضعف حصة الكويت من الاستثمارات الأجنبية القادمة إلى
دول مجلس التعاون، التي لم تزد على %0.46 لعام 2019. ونضيف إلى كل ذلك التحديات
المتعلقة بشح الموارد الطبيعية، خلاف النفط والغاز الطبيعي، وندرة مصادر المياه
والموقع الجغرافي الصعب في منطقة مشتعلة سياسيا.
أزمة
كورونا أثبتت عدم وجود فوائض مالية إضافية لشراء وقت أكثر، فعلى هذا الجيل،
أخلاقيا وأدبيا، العمل الجاد على إبقاء شيء من مجتمع الرفاه الذي تمتعوا به
للأجيال القادمة، فقد استهلك هذا الجيل الكثير من ثروة الكويت النفطية الناضبة،
واستفاد من عهد الفوائض المالية، فعليه المحافظة على مقدرات الكويت المالية وقبول
تحديات إرساء دعائم الاقتصاد المتنوع المستدام لأبنائه وأحفاده، كما بنى لهم
الآباء المؤسسون مقومات الدولة الحديثة، والصندوق السيادي الأول في العالم، حيث
آثروا من خلاله استثمار فوائض النفط المالية لبناء مستقبل أفضل لهم.
الجائحة عرَّت الحكومة اقتصادياً
- وضعتها
مع المجلس أمام زاوية ضيِّقة «محكورة» بالعجز الهائل في الميزانية وشح سيولة
الاحتياطي
- كشفت عن
ضعف البدائل المتاحة وعن غياب تصوُّرات عملية لتحرير الاقتصاد من أحادية الدخل
- تأجيل
الإصلاح الاقتصادي أمام مجلس «شعبوي» يرفع شعار جيب المواطن.. بالرغم من صرخات
المختصين
- أزمة
«كورونا» أثبتت عدم توافر فوائض مالية إضافية لشراء وقت أكثر.. فعلى هذا الجيل
أخلاقياً وأدبياً العمل الجاد
- وكالات
التصنيف العالمية حذَّرت كثيراً من تبعات تأخير الإصلاح.. آخرها النظرة المستقبلية
للكويت من مستقرة إلى سلبية.
المصدر/ جريدة القبس الكويتية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
تنبيه:
الموقع غير مسئول عن أي محتوى أو تصريح أو تعليق يخالف القانون أو يسيء للآخرين